باريس.. مرحلة جديدة
كانت باريس في بدايات القرن العشرين حلم فناني العالم كله. بعد وصوله إليها بوقت قصير، أقام في "مونبارناس"، وسرعان ما انتسب إلى "أكاديمية جوليان"، أكثر الأكاديميات الخاصة شعبية في باريس، التي تخرج منها فنانون كبار، "ماتيس"، و"بونار"، و"ليجيه"... وانتسب كطالب مستمع إلى "كلية الفنون الجميلة". أوقات فراغه، كان جبران يقضيها ماشياً على ضفاف نهر السين ومتسكعاً ليلاً في أحياء باريس القديمة. بعد أن ترك باريس لاحقاً، قال لصديقه "يوسف حويك" الذي عاش معه سنتين في مدينة النور: "كل مساء، تعود روحي إلى باريس وتتيه بين بيوتها. وكل صباح، أستيقظ وأنا أفكر بتلك الأيام التي أمضيناها بين معابد الفن وعالم الأحلام...".
لم يستطع جبران البقاء طولاً في "أكاديمية جوليان"، حيث وجد أن نصائح أستاذه فيها لم تقدم له أية فائدة. من المؤكد أن أسلوبه لم يستطع إرضاء روح جبران الرومانسية. في بداية شباط 1909، عثر الفنان على أستاذ جديد: "بيير مارسيل بيرونو"، "الفنان الكبير والرسام الرائع والصوفي.."، حسب عبارة جبران. لكنه تركه أخيراً، بعد أن نصحه الفنان الفرنسي بالانتظار والتمهل حتّى ينهي كل قاموس الرسم، فجبران نهم إلى المعارف والإبداع وراغب في حرق المراحل...
تردد حينذاك إلى أكاديمية "كولاروسي"، المتخصصة في الرسم على النموذج، والتي كانت تستقبل فنانين أجانب، غير أن جبران كان يفضل العمل وحيداً وبملء الحرية في مرسمه، وزيارة المعارض، والمتاحف، كمتحف اللوفر، الذي كان يمضي ساعات طويلة في قاعاته الفسيحة. وأعطى دروساً في الرسم لبعض الطلبة. وانخرط في مشروع طموح: رسم بورتريهات شخصيات شهيرة، وقد ابتدأها بالنحات الأمريكي "برتليت"، دون أن نعرف بدقة إن كان قد التقى بهؤلاء.
في هذه الأثناء، توفي والده. وكتب إلى ميري هاسكل يقول: "فقدت والدي.. مات في البيت القديم، حيث ولد قبل 65 سنة.. كتب لي أصدقاؤه أنه باركني قبل أن يسلم الروح. لا أستطيع إلاّ أن أرى الظلال الحزينة للأيام الماضية عندما كان أبي، وأمي وبطرس وكذلك أختي سلطانة يعيشون ويبتسمون أمام وجه الشمس...".
كان جبران دائم الشك، طموحاً، ومثالياً، متصوراً أنه يستطيع إعادة تكوين العالم، وسعى إلى إقناع الآخرين بأفكاره ونظرياته حول الفن، والطبيعة...، وقلقاً، وكثير التدخين، وقارئاً نهماً، وقد أعاد قراءة "جيد" و"ريلكه" و"تولوستوي" و"نيتشه"، وكتب نصوصاً بالعربية وصفها المحيطون به بأنها "حزينة ووعظية".
في ذلك الوقت، قدم إلى باريس عدد كبير من دعاة الاستقلال السوريين واللبنانيين، المطالبين بحق تقرير المصير للبلدان العربية الواقعة تحت النير العثماني. وظهرت فيها جمعيات سرية تطالب بمنح العرب في الإمبراطورية العثمانية حقوقهم السياسية وبالاعتراف بالعربية لغة رسمية... وتردد جبران إلى هذه الأوساط وتشرب بأفكارها. ورأى أن على العرب أن يثوروا على العثمانيين وأن يتحرروا بأنفسهم.
رغب جبران في التعريف بفنه. ونجح في الوصول إلى أشهر معارض باريس السنوية، معرض الربيع، حيث استطاع أن يعرض لوحة عنوانها "الخريف"، آملاً أن يمر بها "رودان العظيم" فيعجب بها ويثمنها. جاء الفنان الفرنسي، ووقف لحظة أمامها، وهز رأسه، وتابع زيارته. بعد ذلك، راح يهيئ اللوحات التي دعي لعرضها في معرض الاتحاد الدولي للفنون الجميلة في باريس الذي دعي إليه بشكل رسمي. إلاّ أن عدم الاستقرار أتعبه، فتخلى عن المشروع ليترك باريس ولم تتسن له بعد ذلك العودة قط إلى مدينة الجمال والفنون، ولا إلى مسقط رأسه لبنان. ولم تأته فرصة لرؤية إيطاليا التي طالما حلم بزيارتها.
[عدل] غادر باريس ليعود إلى بوسطن
عام 1908 غادر جبران إلى باريس لدراسة الفنون وهناك التقى مجددا بزميله في الدراسة في بيروت يوسف الحويك. ومكث في باريس ما يقارب السنتين ثم عاد إلى أميركا بعد زيارة قصيرة للندن برفقة الكاتب أمين الريحاني.
وصل جبران إلى بوسطن في كانون الأول عام 1910، حيث اقترح على ماري هاسكل الزواج والانتقال إلى نيويورك هربا من محيط الجالية اللبنانية هناك والتماسا لمجال فكري وأدبي وفني أرحب. ولكن ماري رفضت الزواج منه بسبب فارق السن، وان كانت قد وعدت بالحفاظ على الصداقة بينهما ورعاية شقيقته مريانا العزباء وغير المثقفة.
وهكذا انتقل جبران إلى نيويورك ولم يغادرها حتى وفاته. وهناك عرف نوعا من الاستقرار مكنه من الانصراف إلى أعماله الأدبية والفنية فقام برسم العديد من اللوحات لكبار المشاهير مثل رودان وساره برنار وغوستاف يانغ وسواهم.
[عدل] ماري العزيزة
حال وصوله إلى بوسطن في بداية تشرين الثاني، هرع لرؤية أخته "مارينا". ثم مضى للقاء "ميري"، التي أعلمته على الفور ـ حرصاً منها على إبقاء الفنان تحت رعايتها ـ بأنها مستعدة للاستمرار في منحه الخمسة وسبعين دولاراً التي كانت تقدمها له إبان إقامته الباريسية. ونصحته باستئجار بيت أوسع لممارسة فنه بحرية. وساعدته في تحسين لغته الإنكليزية. وتعززت صداقتهما. وفي 10 كانون الأول، زارها في بيتها لمناسبة عيد ميلادها السابع والثلاثين، وعرض عليها الزواج. لكنها رفضت بحجة أنها تكبره بعشر سنوات. وكتب لها فيما بعد أنها جرحته بهذا الرفض. وقررت "ميري" أن تتراجع وتقبل. ثم عادت فرفضت مرة أخرى.. ربما بسبب علاقاته مع نساء أخرىات، أو لخوفها من الزواج بأجنبي. وسعى جبران بعد ذلك لإغراق خيبة أمله في العمل. وسرعان ما شعر بأن بوسطن مدينة باردة وضيقة وأنها أصغر من طموحاته الفنية، خصوصاً بعد تلك الإقامة في باريس الرحبة والدافئة، عدا الجرح الذي تركته فيه "ميري". وقرر المغادرة إلى نيويورك. حزم حقائبه غير آسف، حاملاً معه مخطوطة "الأجنحة المتكسرة" ونسخة من "هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه.
كانت باريس في بدايات القرن العشرين حلم فناني العالم كله. بعد وصوله إليها بوقت قصير، أقام في "مونبارناس"، وسرعان ما انتسب إلى "أكاديمية جوليان"، أكثر الأكاديميات الخاصة شعبية في باريس، التي تخرج منها فنانون كبار، "ماتيس"، و"بونار"، و"ليجيه"... وانتسب كطالب مستمع إلى "كلية الفنون الجميلة". أوقات فراغه، كان جبران يقضيها ماشياً على ضفاف نهر السين ومتسكعاً ليلاً في أحياء باريس القديمة. بعد أن ترك باريس لاحقاً، قال لصديقه "يوسف حويك" الذي عاش معه سنتين في مدينة النور: "كل مساء، تعود روحي إلى باريس وتتيه بين بيوتها. وكل صباح، أستيقظ وأنا أفكر بتلك الأيام التي أمضيناها بين معابد الفن وعالم الأحلام...".
لم يستطع جبران البقاء طولاً في "أكاديمية جوليان"، حيث وجد أن نصائح أستاذه فيها لم تقدم له أية فائدة. من المؤكد أن أسلوبه لم يستطع إرضاء روح جبران الرومانسية. في بداية شباط 1909، عثر الفنان على أستاذ جديد: "بيير مارسيل بيرونو"، "الفنان الكبير والرسام الرائع والصوفي.."، حسب عبارة جبران. لكنه تركه أخيراً، بعد أن نصحه الفنان الفرنسي بالانتظار والتمهل حتّى ينهي كل قاموس الرسم، فجبران نهم إلى المعارف والإبداع وراغب في حرق المراحل...
تردد حينذاك إلى أكاديمية "كولاروسي"، المتخصصة في الرسم على النموذج، والتي كانت تستقبل فنانين أجانب، غير أن جبران كان يفضل العمل وحيداً وبملء الحرية في مرسمه، وزيارة المعارض، والمتاحف، كمتحف اللوفر، الذي كان يمضي ساعات طويلة في قاعاته الفسيحة. وأعطى دروساً في الرسم لبعض الطلبة. وانخرط في مشروع طموح: رسم بورتريهات شخصيات شهيرة، وقد ابتدأها بالنحات الأمريكي "برتليت"، دون أن نعرف بدقة إن كان قد التقى بهؤلاء.
في هذه الأثناء، توفي والده. وكتب إلى ميري هاسكل يقول: "فقدت والدي.. مات في البيت القديم، حيث ولد قبل 65 سنة.. كتب لي أصدقاؤه أنه باركني قبل أن يسلم الروح. لا أستطيع إلاّ أن أرى الظلال الحزينة للأيام الماضية عندما كان أبي، وأمي وبطرس وكذلك أختي سلطانة يعيشون ويبتسمون أمام وجه الشمس...".
كان جبران دائم الشك، طموحاً، ومثالياً، متصوراً أنه يستطيع إعادة تكوين العالم، وسعى إلى إقناع الآخرين بأفكاره ونظرياته حول الفن، والطبيعة...، وقلقاً، وكثير التدخين، وقارئاً نهماً، وقد أعاد قراءة "جيد" و"ريلكه" و"تولوستوي" و"نيتشه"، وكتب نصوصاً بالعربية وصفها المحيطون به بأنها "حزينة ووعظية".
في ذلك الوقت، قدم إلى باريس عدد كبير من دعاة الاستقلال السوريين واللبنانيين، المطالبين بحق تقرير المصير للبلدان العربية الواقعة تحت النير العثماني. وظهرت فيها جمعيات سرية تطالب بمنح العرب في الإمبراطورية العثمانية حقوقهم السياسية وبالاعتراف بالعربية لغة رسمية... وتردد جبران إلى هذه الأوساط وتشرب بأفكارها. ورأى أن على العرب أن يثوروا على العثمانيين وأن يتحرروا بأنفسهم.
رغب جبران في التعريف بفنه. ونجح في الوصول إلى أشهر معارض باريس السنوية، معرض الربيع، حيث استطاع أن يعرض لوحة عنوانها "الخريف"، آملاً أن يمر بها "رودان العظيم" فيعجب بها ويثمنها. جاء الفنان الفرنسي، ووقف لحظة أمامها، وهز رأسه، وتابع زيارته. بعد ذلك، راح يهيئ اللوحات التي دعي لعرضها في معرض الاتحاد الدولي للفنون الجميلة في باريس الذي دعي إليه بشكل رسمي. إلاّ أن عدم الاستقرار أتعبه، فتخلى عن المشروع ليترك باريس ولم تتسن له بعد ذلك العودة قط إلى مدينة الجمال والفنون، ولا إلى مسقط رأسه لبنان. ولم تأته فرصة لرؤية إيطاليا التي طالما حلم بزيارتها.
[عدل] غادر باريس ليعود إلى بوسطن
عام 1908 غادر جبران إلى باريس لدراسة الفنون وهناك التقى مجددا بزميله في الدراسة في بيروت يوسف الحويك. ومكث في باريس ما يقارب السنتين ثم عاد إلى أميركا بعد زيارة قصيرة للندن برفقة الكاتب أمين الريحاني.
وصل جبران إلى بوسطن في كانون الأول عام 1910، حيث اقترح على ماري هاسكل الزواج والانتقال إلى نيويورك هربا من محيط الجالية اللبنانية هناك والتماسا لمجال فكري وأدبي وفني أرحب. ولكن ماري رفضت الزواج منه بسبب فارق السن، وان كانت قد وعدت بالحفاظ على الصداقة بينهما ورعاية شقيقته مريانا العزباء وغير المثقفة.
وهكذا انتقل جبران إلى نيويورك ولم يغادرها حتى وفاته. وهناك عرف نوعا من الاستقرار مكنه من الانصراف إلى أعماله الأدبية والفنية فقام برسم العديد من اللوحات لكبار المشاهير مثل رودان وساره برنار وغوستاف يانغ وسواهم.
[عدل] ماري العزيزة
حال وصوله إلى بوسطن في بداية تشرين الثاني، هرع لرؤية أخته "مارينا". ثم مضى للقاء "ميري"، التي أعلمته على الفور ـ حرصاً منها على إبقاء الفنان تحت رعايتها ـ بأنها مستعدة للاستمرار في منحه الخمسة وسبعين دولاراً التي كانت تقدمها له إبان إقامته الباريسية. ونصحته باستئجار بيت أوسع لممارسة فنه بحرية. وساعدته في تحسين لغته الإنكليزية. وتعززت صداقتهما. وفي 10 كانون الأول، زارها في بيتها لمناسبة عيد ميلادها السابع والثلاثين، وعرض عليها الزواج. لكنها رفضت بحجة أنها تكبره بعشر سنوات. وكتب لها فيما بعد أنها جرحته بهذا الرفض. وقررت "ميري" أن تتراجع وتقبل. ثم عادت فرفضت مرة أخرى.. ربما بسبب علاقاته مع نساء أخرىات، أو لخوفها من الزواج بأجنبي. وسعى جبران بعد ذلك لإغراق خيبة أمله في العمل. وسرعان ما شعر بأن بوسطن مدينة باردة وضيقة وأنها أصغر من طموحاته الفنية، خصوصاً بعد تلك الإقامة في باريس الرحبة والدافئة، عدا الجرح الذي تركته فيه "ميري". وقرر المغادرة إلى نيويورك. حزم حقائبه غير آسف، حاملاً معه مخطوطة "الأجنحة المتكسرة" ونسخة من "هكذا تكلم زرادشت" لنيتشه.